ترسيم» التدخل
السوري
وليد شقير
في مطلع أيار (مايو) من العام ألفين، قال قطب لبناني حليف لسورية، لا
يزال حليفاً لها حتى الآن، في مجلس خاص: «إذا أصروا (السوريون) على أن
تبقى جبهة الجنوب (في لبنان) مفتوحة بعد الانسحاب الاسرائيلي، فمن
الافضل لي ان أعتزل السياسة».
كان ذلك القطب يشير في لحظة وجدانية الى مداولات بعيدة عن الاضواء كانت
تجرى في ذلك الحين بشأن ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، والذي
اكتمل في 24 أيار من العام نفسه. فهذه المداولات كانت قائمة على قدم
وساق بين الحلقة الضيقة المعنية بالوضع اللبناني في دمشق، والحلقة
الضيقة اللبنانية، الوثيقة الصلة بحلقة دمشق الحاكمة.
فبعدما سقط رهان وزير الخارجية السوري فاروق الشرع آنذاك على ان
اسرائيل لن تنسحب من جنوب لبنان، وبعدما فشل تسويق الفكرة القائلة ان
الانسحاب الاسرائيلي «مؤامرة» اسرائيلية، لأن دمشق كانت تريد الانسحاب
في سياق اتفاق يشمل الجولان، اضطر أعضاء الحلقتين المتصلتين مثل حلقة
واحدة الى التسليم بأن هذا الانسحاب هو أول انتصار عربي على اسرائيل
يؤدي الى انسحابها من أرض عربية محتلة بفعل المقاومة، حتى لو انه يضعف
القدرة على استخدام جنوب لبنان منصة ضغط أمني وعسكري على اسرائيل في
التفاوض على الجولان.
لكن في مقابل التسليم بالانتصار الذي عمّ دويه أرجاء العالمين العربي
والاسلامي وهز اسرائيل، أخرج اعضاء الحلقة الضيقة في بيروت ودمشق من
جعبتهم ورقة مزارع شبعا: «لم يكتمل الانسحاب الاسرائيلي من لبنان
فالمزارع لبنانية وما زالت محتلة»، متجاوزين الخرائط الدولية التي
تصنفها سورية تابعة للقرار الدولي الرقم 242، مستندين الى هذه الورقة
من اجل استمرار المقاومة ضد الاحتلال. وتبنى الرئيس اميل لحود الفكرة،
فيما كان بعض الحلفاء القريبين من دمشق يتبرمون منها.
شمل التبرّم اللبناني من إبقاء وضع الجنوب ولبنان معلّقاً على قضية
المزارع، نقاشاً داخل «حزب الله» نفسه، في صفوف بعض الكوادر الوسطى
التي طرحت اسئلة حول مصلحة لبنان في الإبقاء على حال الاستنفار
والتضحيات، وحول الحاجة الى تثمير الانتصار الحاصل، بعد معاناة الجنوب
والجنوبيين مدة 30 عاماً، بالعودة الى قدر من الاستقرار والتنمية
وتنفُّس الصعداء... وبلغ هذا النقاش الأمين العام للحزب السيد حسن نصر
الله. كما ان بعض حلفاء دمشق نقلوا «تبرمهم» من استمرار لبنان في حال
حرب الى القيادة السورية، فكان الجواب: «أنتم بلد تاريخه تاريخ حروب
وفي امكانه ان يتحمّل بعد...».
كان الرئيس الراحل حافظ الأسد لا يزال على قيد الحياة، فساهمت هالته في
إقناع المترددين من حلفاء دمشق بتبني ورقة المزارع وسيلة لاستمرار
ارتباط وضع لبنان بمجريات الصراع العربي – الاسرائيلي وخصوصاً الجولان.
فلحود كان سبقهم. على رغم ان الحكومات المتعاقبة السابقة منذ أكثر من
ثلاثة عقود لم تطالب في أي مرة بالمزارع.
لم تقتصر خيبة الأمل على تراجع الدول المانحة عن تقديم المساعدات
لإعادة إعمار الجنوب، واعتماد القروض القليلة في بعض جهود التنمية،
وعلى عدم توظيف هذا الانتصار في تحريك الاقتصاد اللبناني، على رغم
محاولات الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي عاد بعدها الى رئاسة
الحكومة... فمع ان فريقاً واسعاً من حلفاء دمشق، ومن خصومها، سلّم
بالحاجة الى استمرار المقاومة من اجل تحرير المزارع، في مقابل وجهة
النظر الداعية الى اعتماد الوسائل الديبلوماسية في استرجاعها، إلا أن
«الحاجة السورية» الى سلطة لبنانية تدعم المقاومة لاستعادتها، بررت على
مدى السنوات الماضية كل أشكال التدخل المباشر في شؤون هذه السلطة
وتفاصيلها وإداراتها والعلاقات بين أقطابها... وصولاً الى تبرير
التمديد للحود ايضاً كامتداد لما يسميه المسؤولون السوريون «اخطاء»
ارتكبوها في لبنان حين يعترفون بالإساءات التي حصلت... فهذا المنطق برر
الكثير من السياسات والممارسات وبنيت على اساسه السيطرة على الكثير من
المؤسسات الرسمية والجهات السياسية، وأدى الى «تفريخ» رموز سياسية
أيضاً.
ليس صدفة ان يتزامن التبني العربي والدولي لمطلب ترسيم الحدود في مزارع
شبعا بين لبنان وسورية، بهدف انهاء ارتباط لبنان العسكري بمجريات
الصراع العربي – الاسرائيلي والإبقاء على هذا الارتباط في المجال
السياسي فقط، مع إصرار أفرقاء لبنانيين داخليين على هذا الترسيم، فهو
مرادف لمطلب هؤلاء وأولئك وقف تدخل سورية في الشأن اللبناني الداخلي
وموازٍ له، وفقاً لما نص عليه القرار الدولي الرقم 1559. وقد يكون
التبني العربي السريع للمطلب عائداً الى دخول العامل الإيراني على الخط
أيضاً.
الحياة |